هل هناك علاج للنرجسية؟
يبدو أن الآباء والمعلمين والباحثين والإعلاميين يتفقون جميعًا على أن شباب اليوم هم الجيل الأكثر نرجسية من بين الأجيال السابقة. ويبدو أن هذا الإجماع يستند إلى بعض الظواهر التي نشاهدها يومياً. إذ لا يمكننا تجاهل سيل المنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي واستعراض صور “السيلفي” التي تدعم وجهة نظرهم. بالإضافة إلى بعض الدراسات الحديثة التي أظهرت أن طلاب اليوم “لديهم مستويات مرتفعة في الإصرار والإعجاب بالنفس والسمات النرجسية، ودائما ما تكون توقعاتهم عن أنفسهم عالية”، لكنهم في المقابل، يظهرون مستويات أعلى في “التوتر والقلق وسوء الصحة العقلية، وانخفاضًا في الاعتماد على أنفسهم”. فهل يؤدي ارتفاع مستويات الثقة لدى هؤلاء الشباب إلى انخفاض في كفاءتهم؟ وهل الزيادة في مستويات التوتر لديهم تُؤثر على أدائهم؟
تثير هذه النتائج قلق البعض الذين يخشون من ظهور طبقة عاملة أقل كفاءةً وأكثر استحقاقًا للامتيازات. ربما أصبح هذا الجيل أكثر أنانية بعض الشيء، لكن هذا الادعاء ليس جديداً. فلطالما ادعت الأجيال الأكبر سناً أن “أبناء اليوم لديهم حياة أسهل”، وليست هذه المرة الأولى التي يوصف فيها الشباب بأنهم كسولون أو مغرورون بأنفسهم. لذلك، ربما يجب علينا طرح تساؤلات أكثر دقة: “هل نحن جميعًا مهووسون بتقييم أنفسنا؟” ما هي العوامل التي تؤدي إلى ظهور النرجسية أو انعدام تقدير الذات؟ ألا توجد طريقة أفضل لبناء شعورنا بقيمة أنفسنا بدلاً من التعالي؟
أجرت عالمة النفس كريستين نيف أبحاثًا مكثفة حول مفهومَي تقدير الذات والتعاطف مع الذات. خلصت إحدى دراساتها إلى أن “تقدير الذات يرتبط على نحو إيجابي بالنزعة النرجسية”. كما وجدت أن “التعاطف مع الذات، رغم قلة اعتماده على عوامل أخرى، يؤدي إلى إحساس الشخص بقيمة أكثر استقراراً”. بعبارة أخرى، يميل تقدير الذات إلى التركيز على التقييم والأداء، بينما يركز التعاطف مع الذات على “معاملة النفس بلطف، والاعتراف بالإنسانية المشتركة، واليقظة عند التفكير في الجوانب السلبية”. ولذلك، يُعد التعاطف مع الذات مفهوماً أوسع وأكثر استقرارًا، لأنه يتضمن فكرة أننا نتشارك القيم الإنسانية مع جميع البشر، الأمر الذي يؤدي إلى الشعور بالمزيد من التعاطف تجاه الآخرين. بالإضافة إلى فكرة الانتباه لعيوبنا الشخصية، التي تعد الخطوة الأولى نحو تغيير الصفات السلبية الموجودة فينا.
تكتسب هذه النتائج أهمية كبيرة عندما ننظر إلى مدى انشغال الآباء والأمهات بتعزيز “تقدير الذات” لدى أطفالهم. بالتأكيد، من الطبيعي أن ترغب في أن يخوض طفلك غمار الحياة بشعور إيجابي عن نفسه، ولكن، مرة أخرى، هل نركز كثيرًا على التقييم؟ هل الثناء الذي نقدمه للأطفال مفيد لهم؟ وكما ذكرت سابقاً في مقالة تتحدث عن التأثيرات السلبية للآباء النرجسيين، أن الأطفال لا يستفيدون من الثناء فعلياً إلا إذا كان صادقًا، ويستند إلى نتائج حقيقية.
أكدت دراسة أجرتها جامعة ستانفورد أن الأطفال الصغار يظهرون حماساً أكبر عندما يتم الثناء على جهودهم، وليس على موهبتهم. على سبيل المثال، بدلاً من قول “أنت ذكي جدًا لأنك حصلت على أعلى الدرجات”، يمكن للوالدين أن يقولا “أنا فخور بك لأنك بذلت جهدًا كبيرًا في الدراسة”.
وخلصت أبحاث أخرى أجرتها جامعة ولاية أوهايو إلى أن المدح المبالغ فيه يضر بالأطفال الذين لديهم ضعف في الثقة بالنفس. وهذا أمر مؤسفٌ، لأنه عندما يكثر الآباء من الثناء على أطفالهم الذين يعانون من تدنٍ في تقدير الذات، فإن ذلك يدفعهم إلى “تجنب الخوض في تحديات جديدة”. مثلاً، إذا كان الطفل يخاف من التحدث أمام الآخرين، فإن الإكثار من مدحه بقول أشياء مثل “أنت قوي، أنت شجاع” قد يزيد من توتره، ويمنعه من التحدث في المواقف التي تتطلب منه ذلك.
ما هو إذن البديل عن الثناء المفرط؟ كيف يمكننا تزويد أطفالنا بالثقة التي يحتاجون إليها للنجاح، دون أن نسبب لهم الشعور بالفراغ أو تضخم في تصورهم عن أنفسهم؟ وكيف يمكننا تنمية هذه الصفة في أنفسنا نحن كآباء؟ في ظلّ وجود كل هذه التساؤلات، نجد أن الإجابة تكمن في إعادة صياغة علاقتنا مع أنفسنا، وذلك من خلال تحويل تركيزنا من “تقدير الذات” إلى “التعاطف مع الذات”.
تقول الدكتورة نيف،”يشعر الناس بالتعاطف مع أنفسهم، لأنهم يؤمنون أن جميع البشر يستحقون التعاطف والتفهم، وليس لأنهم يمتلكون صفات معينة مثل الجمال والذكاء والموهبة وما إلى ذلك. وهذا يعني أنه عند تعاطفك مع ذاتك، لا يتعين عليك الشعور بأنك أفضل من الآخرين لتكون راضياً عن نفسك.” وتلخص الدكتورة نيف العناصر الثلاثة للتعاطف مع الذات في: معاملة النفس بلطف، والإنسانية المشتركة، واليقظة الذهنية. حيث تعد هذه الخصائص ترياق طبيعي للنزعة النرجسية.
الأفراد الذين لديهم تعاطف مع الذات لا يواجهون عيوبهم فحسب، بل يُظهرون مستويات عالية من التحلي بالصبر والوعي عند مواجهة التحديات. يمتد تركيزهم إلى ما هو أبعد من أنفسهم ليشمل الآخرين، وهم قادرون على تعزيز الشعور بالمساواة والتعاطف مع الجميع. من خلال التأكيد على هذه القيم، نستطيع تنمية التعاطف في أطفالنا وأنفسنا طوال رحلة نمونا.
هناك طريقتان للقيام بذلك: تعلم وممارسة ما يعرف بـ “اليقظة الذهنية”، أو تحديد “الصوت الداخلي الناقد”. هذا الصوت هو بمنزلة عدو داخلي يعيش داخل عقولنا، ويصدر التعليقات باستمرار على كل أفعالنا. يتشكل هذا الناقد الداخلي من خلال التجارب السلبية التي مررنا بها في وقت مبكر من حياتنا، وأضرت بنظرتنا لأنفسنا. وعلى عكس الضمير، يمثل الصوت الداخلي الناقد “ذات معادية”، وهي صوت مُدرِب عدائي يقف في مواجهتنا، يغرينا بنصائح سلبية، ويوبخنا على أخطائنا باستمرار. على سبيل المثال، عندما لا نحقق نتائج جيدة في اختبار ما أو نتوقف عن اتباع نظامنا الغذائي، سيضربنا بأفكار مثل “ها أنت ذا تعبث مرة أخرى، قلت لك أنك لن تنجح”.
يمكن للصوت الداخلي الناقد أن يكون مخادعًا. فهو لا يبدو قاسياً دائمًا، بل يمكن أن يبدو مهدئًا في بعض الأحيان. إذ يستدرجنا بأفكار مثل: “لا تثق بأحد. أنت بخير وحدك، فقط اعتني بنفسك.”، وبمجرد أن تتصرف بناءً على نصيحته، ستجده ينتقل إلى توبيخك قائلاً: “أنت شخصية منعزلة. لن يحبك أحد أبدًا، أنت شخص فاشل.”
لا يقتصر تعليق هذا الناقد الداخلي علينا فحسب، بل يتدخل أيضًا في أحكامنا على الأشخاص الذين من حولنا. يحذرنا منهم أو يدفعنا بعيدًا عنهم بحجة حماية أنفسنا. ومع أنه يعاملنا بقسوة، إلا أنه يشجع “الأنا” المتضخمة لدينا. وليس من المستغرب أن كثيراً من النرجسيين يخفون إحساساً عميقاً بعدم الكفاءة أو الخوف من الفشل، فقد أظهرت دراسة حديثة على مستخدمي فيسبوك، وجود علاقة بين النرجسية وتدني احترام الذات.
لذلك، فإن الخطوة الكبيرة نحو تعزيز التعاطف مع الذات هي التعرف على هذا الناقد الداخلي ومواجهته. يجب أن تكون قادراً على تحديد الأفكار المدمرة أو “الأصوات الداخلية الناقدة” التي تتدخل في كل نواحي حياتك، وغالباً ما تؤدي إلى تحطيمك. بمجرد أن تسيطر على هذا الناقد الداخلي، يمكنك منعه من التحكم في حياتك وعلاقاتك وسلوكياتك. يمكنك أن تنمي موقفًا متعاطفاً تجاه نفسك، ومن ثم تحويل تركيزك إلى الخارج، لتصبح أكثر كرمًا مع نفسك ومع الآخرين.
يعد الكرم من الأشياء الجيدة التي تمنح السعادة والشعور الإيجابي بالذات. بل يعد مبدأً مهماً للصحة النفسية، وقد ثبت أنه يساعدنا على العيش لفترة أطول. لكن هناك أربعة عناصر مهمة للكرم يجب الانتباه لها:
- إعطاء شيء يلامس حاجة أو رغبة الناس. لا يتعلق الأمر بالماديات، وانما ببذل الأشياء التي تعبر عن أصالتك.
- الانفتاح على امتنان الناس لعطائك وتقبل تقديرهم لك.
- السماح للآخرين بفعل أشياء لطيفة تجاهك.
- التعبير عن شكرك وتقديرك لحسن معاملة الآخرين تجاهك.
بتركيزنا على تنمية الشعور الحقيقي بالذات، الذي يشمل نظرة متعاطفة وواقعية لقدراتنا، ورؤية متعاطفة تجاه الآخرين، نستطيع التخلص من رغبتنا الملحة في تعزيز تقديرنا لذاتنا أو نرجسيتنا بسبب مقارنة أنفسنا بالآخرين، وسعينا الدائم لأن نكون الأفضل. بدلاً من ذلك، يمكننا التركيز على قواسمنا المشتركة كبشر، وهو ما سيؤدي بدوره إلى التزامنا بسلوك أكثر أخلاقية تجاه أنفسنا وتجاه الآخرين.
عندما نركز على التعاطف بدلاً من التقدير، ونقيس نجاحنا من خلال ما نعطيه، وليس بما نحصل عليه، فإننا بذلك نبني إحساساً صلباً بالذات يقلل من شعورنا بالتوتر، ويزيد من رضانا عن أنفسنا. يمكننا حينها التغلب على شعورنا بعدم الأمان، والسعي لتحقيق المزيد من الإنجازات في حياتنا. وعندما نتعثر، يمكننا التصرف بإيجابية ومرونة تضمن لنا نتائج أفضل في المستقبل. وأخيراً، نقوم بترسيخ صورة ذاتية مبنية على الحقيقة ولها معنى. نستطيع رؤية “ذواتنا” وتقديرها بوضوح، دون الحاجة إلى صورة “السيلفي”.
ترجمة وإعداد: أسامة أحمد
مقال منشور على موقع “سَيْك ألايف”، ترجم إلى اللغة العربية، ويُنشر حصريًا على منصة نرجسي بإذن خاص من الدكتورة ليزا فايرستون.
Lisa Firestone, Ph.D., Is There a Cure for Narcissism?, Psych Alive, https://www.psychalive.org/is-there-a-cure-for-narcissism/