مراحل التعافي من الإساءة النرجسية

سبع محطات في رحلة التعافي من الإساءة النرجسية واكتشاف الذات مجدداً
تُخلف العلاقات النرجسية جروح نفسية عميقة، وتترك وراءها ضحايا غارقون في مشاعر الألم والإحباط وفقدان الإحساس بالذات. يصبح تجاوز هذه التجربة عملية مرهقة، إذ تمثل رحلة مليئة بالتحديات التي تضع الفرد في حلقة مفرغة يصعب الخروج منها.
تتطلب هذه الرحلة وعيًا حقيقيًا بمراحل التعافي، وجهودًا متواصلة لاستعادة الهوية والحياة الطبيعية التي ضاعت بسبب الإساءة. في هذا المقال، نُسلّط الضوء على مراحل التعافي من الإساءة النرجسية، ونقدم توصيفاً لكل مرحلة، بالإضافة إلى بعض النصائح العملية التي قد تساعدك في التغلب على الصعوبات.
المرحلة الأولى: الإدراك والإعتراف
الإقرار بتعرضك للإساءة النرجسية والتعرف إلى أنماطها، هي الخطوة الأساسية الأولى في رحلتك نحو التعافي. غالباً ما يواجه الضحايا صعوبة في تمييز أشكال الإساءة النرجسية والاعتراف بها، وذلك بسبب التلاعب التي تعرضوا له من قبل النرجسي على المدى الطويل. تُشدّد الدكتورة راماني دورفاسولا، وهي معالجة نفسية سريرية وخبيرة في مجال الإساءة النرجسية، على أهمية الإدراك كخطوة رئيسية في رحلة التعافي. وتؤكد على ضرورة أن يتعرف ضحايا النرجسية على علامات الإساءة، مثل التلاعب النفسي، والاستغلال، والإهمال العاطفي، لكي يتمكنوا من البدء في رحلة التحرّر من آثارها.
إدراك الإساءة والإقرار بها يأتي تدريجيًا، وغالبًا ما يكون مصحوبًا بالألم. فقد تُلقي باللوم على نفسك في بداية الأمر، وربما تتحمل مسؤولية جميع المشكلات التي حدثت في العلاقة. شعورك بهذه الطريقة، أصبح جزءاً من تفكيرك بسبب قدرة النرجسي على تحويل اللوم إليك طوال الفترة السابقة.
مع مرور الوقت، ومع التسلح بالمعرفة من خلال الإطلاع والقراءة عن اضطراب الشخصية النرجسية، واستشارة معالج مختص، ستتمكن من فهم مشاعرك المُرتبكة وتفكيك خيوط الإساءة التي تعرضت لها. عندها ستكون قد خطوت خطوتك الأولى التي تُشكل لحظة تحرر قوية وأساسًا متينًا لجميع مراحل التعافي اللاحقة.
المرحلة الثانية: كسر دائرة الإساءة
بعد إدراك حقيقة الإساءة النرجسية والتعرف إلى أساليبها، تأتي مرحلة تحرير نفسك من قبضة دورتها المدمّرة. في مرحلة التحرّر هذه، يعد وضع الحدود بشكل صارم خطوة حاسمة. قد يتطلب الأمر إنهاء علاقتك مع الشخص النرجسي نهائياً، أو على الأقل خلق مسافة جسدية وعاطفية بينك وبينه. تُشير دراسة أجراها الدكتور جون ماثي وآخرون نُشرت في عام 2023، إلى أنّ الأشخاص الذين نجحوا في وضع حدود شخصية واضحة، شهدوا تحسنًا ملحوظًا في صحتهم النفسية وتقديرهم لذاتهم، وكذلك زيادة في تلقي الدعم الاجتماعي.
قد يكون كسر قيود الإساءة صعبًا جداً، خاصةً مع تمسك الشخص النرجسي بأساليب خبيثة مثل “التلاعب العاطفي” الذي يستخدمه لاستعادتك كلما حاولت الابتعاد أو وضعت حداً يمنعه من التحكم بك. لذلك، في كثير من الأحيان، خصوصاً في الحالات الممكنة، يُصبح قطع التواصل نهائيًا أمرٌ لا بدَّ منه. قد يتضمن ذلك تغيير أرقام الهاتف، وحظر حسابات التواصل الاجتماعي، وربما اللجوء إلى الحماية القانونية.
مع أنّ مرحلة التعافي من الإساءة النرجسية هذه تكون مليئة بالخوف والقلق، إلا أنّها ضرورية لضمان سلامتك وحمايتك من التعرض للمزيد من الأذى. اطلب المساعدة من أصدقائك أو أحد أفراد عائلتك الذين تثق بهم، أو استشارة مختص نفسي. ستُوفّر لك المساعدة القوة اللازمة لكسر هذه الدائرة والبدء برحلة تعافي حقيقية.
المرحلة الثالثة: الحزن واستكشاف المشاعر
الحزن على فقدان العلاقة، وعلى خسارة “النسخة المثالية” التي كونتها عن الشخص النرجسي، هو جزء أساسي من رحلة التعافي. تتضمن هذه المرحلة معالجة مجموعة من المشاعر، بما في ذلك الغضب والحزن والارتباك والخوف والشعور بالذنب. تشير الدكتورة كريستي باركين، إلى أن الشعور بالحزن بعد علاقة نرجسية يكون من الأشياء المتوقعة، وأن الاعتراف بهذا الحزن والعمل على تجاوزه يتطلب جهداً وعزيمة.
توضح الدكتورة أن كتابة اليوميات تُعدّ وسيلة فعالة لتجاوز حالة الحزن هذه. فهي تُتيح للشخص تدوين مشاعره وأفكاره، وتتبع التغيرات التي يمر بها، وتحديد الأهداف التي يرغب في تحقيقها. بالإضافة إلى أنها تساعد في وضع تصور واضح لتغيير المعتقدات السلبية.
الحزن الذي يصاحب هذه المرحلة لا يسير في خط مستقيم، بل يتغير فجأة من يوم إلى آخر. فقد تشعر اليوم بالغضب، وفي اليوم التالي تسيطر عليك مشاعر اليأس أو ربما الراحة. اسمح لنفسك بتجربة هذه المشاعر المتقلبة كما هي دون حكم مسبق. جرب كتابة ما تشعر به للتعبير عن حالتك. تحدث إلى المقربين منك لتشعر بالانتماء والمساندة، سيساعدك وقوفهم إلى جانبك على الإحساس بأنك لست وحيداً في معاناتك.
المرحلة الرابعة: إعادة بناء الثقة بالنفس
الشروع في رحلة استعادة الثقة بالنفس، واستعادة هويتك بعد التعرض للأذى النرجسي هي من أصعب مراحل التعافي. إذ تتطلب مواجهة الآثار المترتبة على التدهور العاطفي الذي وصلت إليه، وهي عملية تشعر من خلالها، وكأنك نسخة باهتة من شخصيتك السابقة التي كانت مليئة بالشغف والثقة والأمل.
في هذه المرحلة، قد تعاني من شعور عميق بالفقدان، ليس فقط للعلاقة نفسها، ولكن أيضًا لهويتك واحترامك لذاتك. فأساليب التلاعب التي استخدمها النرجسي جعلتك تشعر بالعزلة والانفصال عن شخصيتك الحقيقية. والتشويش الذي مارسه عليك منعك من الإحساس بالواقع. تجد نفسك مشككاً طوال الوقت بقدراتك العقلية واهتماماتك، وحتى ذكرياتك.
استعادة الثقة بالنفس بعد التعرض للإساءة النرجسية، تتضمن عملية تقشير لطبقات الشك لديك، وإعادة اكتشاف قيمتك الحقيقية. ولكي تستعيد الأجزاء التي قمعها النرجسي، يجب أن تكون قادراً على مواجهة الأفكار المشوهة التي فرضها عليك، وأصبحت الآن جزءاً من شخصيتك. وفي الوقت نفسه، يجب ألا تقسو على نفسك كثيراً.
أعد تعريف نفسك بشروطك الخاصة، بعيداً عن شبح التلاعب والسيطرة. ابدأ بخطوات صغيرة قابلة للتحقيق، مثل الانخراط في أنشطة تجلب إليك الإحساس بالسعادة أو تساعدك على الاسترخاء، أو قم بالتواصل مع الأصدقاء القدامى وممارسة الهوايات المفضلة التي توقفت عنها.
تدور هذه المرحلة حول تكريم قدرتك على التحمل واستعادة إيمانك بنفسك. عندما تواجه الماضي بشجاعة وتتعاطف مع نفسك، أنت تمهد الطريق ليكون احترامك لذاتك متجذرًا في وعيك. جميع مراحل التعافي من الإساءة النرجسية غالباً ما تكون صعبة، لكن تجاوزك لهذه المرحلة سينقلك إلى مستوى متقدم جداً من رحلة التعافي، وستصبح شخصاً مختلفاً تماماً.
المرحلة الخامسة: بناء علاقات صحية جديدة
بعد تجربتك القاسية مع النرجسي، تحتاج إلى تعلم كيفية بناء علاقات صحية أفضل. تتضمن هذه المرحلة فهم طبيعة العلاقات الصحية، والتخلص من الأفكار والمعتقدات التي ترسخت في ذهنك خلال علاقتك النرجسية. ستواجه صراعاً داخلياً في مسألة الثقة بالآخرين خوفاً من تكرار الأخطاء السابقة. وستمنعك الندوب العاطفية التي تسبب بها النرجسي من الاعتقاد بإمكانية وجود علاقات صحية قائمة على الاحترام والتقدير. قد تجد صعوبة في وضع الحدود أو المطالبة باحتياجاتك من الآخرين، وربما تفشل في انتزاع الأشياء التي تستحقها.
لكي تبني علاقات جيدة، فإن التعليم الذاتي هو ملاذك الأول في هذه المرحلة. ثقف نفسك حول العلاقات الصحية، سيساعدك هذا على وضع الإطار المناسب لنوع العلاقة التي تسعى إليها. تعلم مهارات التواصل، وابني شخصيتك لتكون حازماً، وقادراً على وضع الحدود دون خوف أو تردد. درب نفسك للتعرف على العلامات التحذيرية التي تظهر على الأشخاص المسيئين. ممارسة هذه المهارات في بيئات آمنة، مثل الأصدقاء الموثوقين أو الأشخاص الذين مروا بنفس التجربة، يمكن أن يعزز من ثقتك بنفسك، ويهيؤك لعلاقات صحية جيدة مستقبلاً.
يتطلب منك في هذه المرحلة تغيير نهجك تجاه العلاقات من خلال إدراكك لقيمتك، والتأكيد على أنك تستحق احترام مشاعرك واحتياجاتك. عند فهم العلاقات الصحية وتنمية مهارات التواصل، فإنك تجنب نفسك الوقوع في براثن الإساءة مرة أخرى، وتفتح الباب أمام علاقات أكثر إرضاءً.
المرحلة السادسة: التسامح وتجاوز الماضي
في سياق مراحل التعافي من الإساءة النرجسية، لا يعني التسامح والتجاوز بالضرورة العودة إلى العلاقة مع الشخص النرجسي. بل تتضمن التحرر من الغضب والكراهية اللذان يعيقان رحلة تعافيك. التمسك بهذه المشاعر السلبية يمكن أن يبقيَك أسيرًا لذكريات الماضي، ويصعّب عليك مهمة الخروج من دائرة الإساءة.
خلال هذه المرحلة، ستشعر بمقاومة شديدة لفكرة التسامح لأنها تبدو وكأنها تبرئ النرجسي أو تلغي إحساسك بالألم والظلم. من الضروري أن تدرك أن التسامح هو من أجل شفائك أنت، وليس من أجل النرجسي. عندما تبدأ بالتخلي عن عبء الغضب ومرارة التخطي، ستشعر بتحرر وراحة تغمرك من كل جانب. هذا التحرر سيسمح لك باستعادة صحتك النفسية وراحة البال التي طالما افتقدتها.
بتركيزك على الحاضر، ستتمكن من التخلّص من قيود الماضي، وستصبح حاضراً بكل كيانك. حينها يمكنك البدء بالتعاطف مع نفسك. تعامل مع نفسك بلطف، تماماً كما تفعل مع أحبائك. تقبل مشاعرك المؤلمة، وتصالح معها، وكن على يقين بقدرتك على الصمود. تخلّص من إحساسك بالظلم، واسْعَ إلى إيجاد سلامك الداخلي. اخلق مساحة تمكنك من تحديد أهداف جديدة، وستكون قادراً على المضي قدمًا بخطوات واثقة.
المرحلة السابعة: المضي قدمًا
مراحل التعافي من الإساءة النرجسية لا تنتهي عند تحرير نفسك وتجاوز الماضي فقط. فالمرحلة الأخيرة تتطلب منك أن تتقدم دون توقف. تخيل نفسك وأنت تخرج من هذه التجربة الصعبة، وقد اكتسبت قدرة جديدة على التحكم بحياتك، وعزيمة لم تكن تعرف أنك تمتلكها.
في هذه المرحلة ستشعر، وكأنك قد تغيرت جذريًا. ولملائمة هذا التغيير، لا بدَّ أن يكون لك أهدافاً جديدة تدفعك لتجاوز الماضي. يمكنك البحث عن فرص وظيفية، أو متابعة دراستك، أو الانخراط في مشاريع شخصية أو أنشطة تعكس شغفك، وتبرز نقاط قوتك. هذا هو الوقت المناسب لإعادة اكتشاف اهتماماتك وطموحاتك، وبناء حياة تشعرك بالرضا عن نفسك.
تبنى نظرة إيجابية، واحتفل بالانتصارات الصغيرة في كل الأوقات. سيساعدك الاحتفال في الحفاظ على روح التفاؤل، وسيعزز شعورك بالإنجاز. كل خطوة تخطوها نحو أهدافك هي إثبات على مدى قوتك وعزيمتك، وستمهد لك الطريق لمستقبل مليء بالأمل.
ختاماً
التعافي من الإساءة النرجسية رحلةٌ شاقةٌ تتطلب الصبر والمثابرة والحصول على الدعم المناسب. ستواجه خلالها تقلبات عاطفية، وقد تشعر أحيانًا بأنّ التقدم الذي تحرزه بطيء جداً. كن لطيفًا مع نفسك وتحلّ بالصبر. قدّر أي تقدم تحرزه، مهما بدا بسيطًا. وبالصبر والمثابرة، ستخرج من هذه التجربة أقوى من أي وقت مضى.
من خلال فهم هذه المراحل، ستتمكن من إعادة اكتشاف ذاتك وبناء حياتك. لا تتردد في طلب المساعدة، فهناك الكثير من الأشخاص الذين سيسعدهم دعمك في كل خطوة. استثمر في نفسك، واحتفظ بالأمل، فالتعافي من الإساءة النرجسية هو بداية فصل جديد في حياتك، تحدده أنت وتعيشه بطريقتك.
Mathe, J. R., & Kelly, W. E. (2023). Mental Boundaries Relationship with Self-Esteem and Social Support: New Findings for Mental Boundaries Research. Imagination, Cognition and Personality, 43(1), 29-41. https://doi.org/10.1177/02762366231158274
Kristy Lee Parkin Ph.D. May 27, 2021. From Grief to Relief: Healing After Abuse. Psychology Today.
https://www.psychologytoday.com/intl/blog/love-in-the-age-narcissism/202105/grief-relief-healing-after-abuse
Angelica Bottaro. (2023).The Complete Guide to Narcissistic Abuse Recovery. Verywell Health.
https://www.verywellhealth.com/narcissistic-abuse-recovery-challenges-and-treatment-5210945
Anna Drescher. (2024). Signs You Are Healing From Narcissistic Abuse. Simply Psychology
https://www.simplypsychology.org/narcissistic-abuse-healing.html