كيف يعامل الآباء النرجسيون أبنائهم؟
يتصرف الآباء النرجسيون وفقًا للصورة المثالية التي يتخيلونها عن أنفسهم. يرون أنفسهم كملوك للعائلة أو أشخاص ذوي أهمية استثنائية. بالنسبة لنا كأطفال، يكون الوالدان مصدر أماننا وأساس تكوين مفهومنا عن الذات. لكن عندما يكونون نرجسيين، يحجبون عنا الحب الذي نحتاجه، ويرفضون تقبلنا كما نحن بكل عيوبنا.
هذا السلوك يترك أثراً عميقاً في ثقتنا بأنفسنا، ويجعلنا ندمن الاعتماد على الآخرين في إدارة شؤون حياتنا. نشعر بالخجل من أنفسنا، ونعاني من تدني احترام الذات. تُحفر تجارب الطفولة في ذاكرتنا، وتنتقل معنا لنستخدمها في تفاعلاتنا عندما نكبر، مما يؤثر على شخصياتنا وعلاقاتنا لاحقًا في الحياة.
ومع أن الصفات النرجسية تبدو متشابهة لدى جميع الآباء والأمهات، إلا أن تأثيرها علينا كأطفال، سواء كنا ذكوراً أو إناثاً، قد يختلف. في هذا المقال، سنناقش بعض الأسباب التي تجعل تربية الآباء النرجسيين سامة.
انعدام التعاطف
يُعدّ التعاطف من الأشياء الضرورية التي يحتاج إليها الأطفال لتكوين مفهوم صحي عن الذات، وتعلم “حب الذات”. يفتقر النرجسيون إلى هذا التعاطف بدرجة أساسية، ما يجعلهم غير قادرين على رعاية أطفالهم أو الشعور باحتياجاتهم وفهم مشاعرهم. حتى إذا كان هناك أم نرجسية تظهر اهتماماً بطفلها، فإن عدم قدرتها على التعاطف معه والاستجابة لمتطلباته العاطفية بشكل مناسب قد يعيق عملية نموه الطبيعية.
قد يلجأ بعض النرجسيين إلى تكليف أشخاص آخرين بمهام التربية وإظهار درجات متفاوتة من الإهمال، ويتبنى البعض الآخر سلوكيات تهدف إلى التحكم أو الإساءة. في النهاية، يعاني أبناء هؤلاء من صعوبة في تلبية احتياجاتهم العاطفية ورعاية أنفسهم عندما يكبرون.
السيطرة والأنانية
الآباء الناضجون عادةً لا يترددون في تلبية احتياجات طفلهم، ويضحّون برغباتهم الشخصية من أجل مصلحته. أما الآباء النرجسيون، فيضعون مشاعرهم واحتياجاتهم العاطفية فوق كل اعتبار. يؤدي هذا السلوك إلى أن تكيف الطفل مع تصرفات والديه ويصبح معتمدًا عليهم بشكل مفرط، مما يدفعه تدريجياً إلى تجاهل احتياجاته ومشاعره الخاصة، مفضلاً التركيز على تلبية احتياجاتهم.
يرى الآباء النرجسيون محاولات أطفالهم الطبيعية نحو الاستقلال على أنها تهديد أو إهانة شخصية. لذلك، قد يتجاهلون الطفل أو يمارسون المزيد من الهيمنة عليه. ينظرون إلى استقلاليته كتهديد لمكانتهم، وكأنه ينافسهم. على سبيل المثال، قالت والدتي النرجسية ذات مرة، وهي تراقب حفيدها البالغ من العمر 20 شهرًا بينما كان يستكشف غرفة المعيشة: “يعتقد أنه يملك المكان!”
أساليب تربية النرجسيين التي تعتمد على الإهمال أو السيطرة أو مزيج منهما يؤدي إلى ما يُعرف بـ”الهجر العاطفي”. يحدث هذا الهجر عندما يفشل الآباء النرجسيون في الاعتراف بأطفالهم كأفراد مستقلين لهم احتياجاتهم ومشاعرهم. يعتبرون هذه الاحتياجات عبئاً أو مصدر إزعاج أو إحراج. سمعت أحد الآباء النرجسيين يقول لابنه ببرود: “أنت بلا قيمة لأنك لا تمتلك ثروة”.
يُظهر هؤلاء الآباء سلوكيات غير ناضجة مثل قيامهم بعكس الأدوار، حيث يطالبون أبنائهم بتقديم الرعاية لهم، ويشاركونهم تفاصيل شخصية لا تتناسب مع أعمارهم. قد تتضمن هذه التفاصيل مواقف حميمة مع شركائهم (خصوصاً بعد الطلاق)، وتجارب ذات طابع جنسي، أو قد يفصحون لهم عن أحزانهم وأوجاعهم.
لا تتوقع أبداً أن يشارك النرجسيون في هوايات أو أهداف أو اهتمامات طفلهم، إلا إذا كانت تتماشى مع رغباتهم الخاصة. لن يكترثوا لإنجازاته أو جاذبيته إلا إذا كانت تعزز من مكانتهم. ولن يشاركوا الطفل في حماسه أو اعتزازه بشيء، ما لم تكن فكرتهم أو جزءاً من اهتماماتهم.
غالباً ما يفرض الآباء النرجسيين تفضيلاتهم على طفلهم، ويجبرونه على الطريقة التي يجب أن يفكر بها أو يتصرف بها، أو حتى الطريقة التي يجب أن يرتدي بها الملابس. وهذا يشمل فرض قرارات تتعلق باختيار المدرسة والوظيفة وشريك الحياة.
قد يتمادى بعضهم بفرض طموحاتهم الخاصة على طفلهم، على أمل أن يحظوا بحياة ناجحة من خلاله. ونتيجة لذلك، يشعر الأطفال الذين نشأوا مع آباء نرجسيين بالحاجة المستمرة لإثبات جدارتهم، سواء لكسب إعجاب معلميهم إو مديريهم أو أحبائهم، أو عند سعيهم لتحقيق الأهداف ولا يجدون الدعم المناسب.
يعتقدون أن طفلهم مجبرٌ على تحمل نوبات غضبهم وتنفيذ أوامرهم؛ وربما تلبية احتياجاتهم الاجتماعية أو المالية. قد يأمرونه بتنظيف المنزل أو الحديقة بطريقة مثالية، ثم يذهبون للاسترخاء. على سبيل المثال، طلب أحد الآباء القاسيين من ابنه أن يحفر بركة سباحة ضخمة، وأمر أب آخر ابنه بقص العشب بشفرة حلاقة تحت تهديد العنف الجسدي.
يلجأ بعض النرجسيين إلى تهديد أبنائهم بالعنف الجسدي أو القطيعة العاطفية أو المالية، إذا أخفقوا في تحقيق رغباتهم وتوقعاتهم. يكبر هؤلاء الأطفال، وهم يخشون ارتكاب الأخطاء أو التعبير عن أنفسهم بحرية، ويتعودون على إخضاع احتياجاتهم ومشاعرهم للآخرين.
المنافسة والحسد والغيرة
في كثير من الأحيان، يشعر الآباء النرجسيين بالغيرة تجاه أبنائهم ويسعون دائماً إلى منافستهم، إما بسبب جاذبيتهم أو قدراتهم الرياضية أو الفكرية أو أي اهتمام إيجابي آخر. قد يغازل الأب النرجسي زوجات أبنائه؛ وتتدخل الأم النرجسية في علاقة الأبناء بوالدهم. قد يحسدون طفلهم على المزايا التي يحصل عليها ويتهمونه بعدم الامتنان، لأنهم حرموا هذه الامتيازات عندما كانوا صغاراً.
هناك آباء نرجسيون يلجؤون إلى استخدام أسلوب المقارنات السلبية للتقليل من شأن أطفالهم. ينشأ هذا السلوك بسبب نفس مشاعر الغيرة والحسد التي تحفز رغبتهم على المنافسة. قد يقارنون الطفل بأخ أو صديق أو ابن عم أو حتى بأنفسهم. يحدثونه باستمرار عن الدلال الذي يحظى به، وكيف أنه أقل إنجازاً وأكثر حظاً مقارنة بما كانوا عليه في صغرهم. ولسوء الحظ، يؤدي هذا إلى معاناة الكثير من الأبناء لسنوات أو عقود، وربما مدى الحياة من الشعور بالعار وانخفاض احترام الذات.
مهما فعلت فأنت لست جيدًا بما يكفي
مثل جميع النرجسيين، يميل الآباء دائماً إلى التفاخر بإنجازاتهم وعائلاتهم وأطفالهم. ويرون بأنه لا يمكن لأحد أن يرقى إلى نفس المستوى الذي يتخيلونه عن أنفسهم. يستخدمون الأبناء والزوجات للتباهي، ويتوقعون منهم أن يكونوا أشخاصاً متفوقين. وبينما قد يظهرون بعض الاهتمام واللطف أحياناً، إلا أن سلوكهم يمكن أن يتغير بسرعة إلى محاولة فرض السيطرة والإذلال.
بسبب سقف التوقعات المرتفع الذي يفرضه هؤلاء الآباء، يبذل الأبناء جهودًا كبيرة في محاولة كسب رضاهم. تصبح محاولة إرضائهم مهمة مستحيلة لأن حبهم يكون مشروطًا دائمًا وغير قابل للتنبؤ، مما يدفع الأبناء إلى لوم أنفسهم باستمرار. التربية المبنية على معايير صارمة وغير مرنة تبعد الأطفال عن ذواتهم الحقيقية، وتخلق لديهم شعورًا بالألم واليأس.
على سبيل المثال، لطالما أعربت والدتي عن خيبة أملها لأن أخي لم يدرس القانون، مدعيةً أن لديه القدرة على أن يصبح محامياً بارعًا. كان السبب وراء اختياري دراسة القانون هو رغبتي في الحصول على ثنائها الذي دائما ما كنت أسعى إليه، لكنه لم يأتِ. فعندما أصبحت محامية ترفيه، تذمرت والدتي لأنني لم أصبح وكيلة أعمال في هوليوود، مدعيةً أن تلك الوظيفة مرموقة أكثر. وحينما لم أفعل، حثتني على أن أصبح قاضية للحصول على المكانة العالية. وفي النهاية، عندما قررت أن أصبح معالجة نفسية، حاولت منعي، مشيرة إلى أنني سأكسب المزيد من المال في القانون.
التلاعب وسوء المعاملة
نعلم جميعاً أنه من السهل جداً التلاعب بالأطفال والتأثير فيهم. فما بالك إذا كان الآباء النرجسيون يستخدمون التهديد والإهانة واللوم لفرض سيطرتهم. يلجأ الآباء النرجسيين إلى أسلوب الإذلال ليتمكنوا من التحكم بطفلهم. يوجهون له شتائم لاذعة، وانتقادات تحطم ثقته بنفسه. يلقون عليه اللوم طوال الوقت، ويمتنعون عن إظهار مشاعر الحب في الأوقات التي يكون في أمس الحاجة إليها. والأغرب أنهم يسقطون عليه إحساسهم بالعجز وصفاتهم السلبية مثل، لفت الانتباه والأنانية، مع أنها صفات يتبرؤون منها دائماً.
يتجاهلون احتياجات طفلهم العاطفية، وينكرون مشاعره، ويستخفون بها. قد يصل بهم الأمر إلى معاقبته على التعبير عن مشاعره الطبيعية مثل الحزن أو الغضب، بحجة أنه “حساس جداً” أو “ضعيف جداً”. فالحب والقبول بالنسبة إليهم أداةً يستخدمونها لمنح المكافأة أو العقاب.
يخلق هذا السلوك الاستبدادي شعوراً مستمراً بعدم الأمان لدى الطفل، ويرسخ في ذهنه فكرة أن الحب دائمًا ما يكون مشروطاً بسلوكه وتصرفاته. تتسبب له هذه المعاملة بأضرار نفسية جسيمة تدمر إحساسه بنفسه وتقديره لذاته، وتكون أحياناً بنفس الألم الذي تحدثه الإساءة الجسدية أو الجنسية.
مداواة الجراح
غياب الحب والقبول والتواصل العاطفي في مرحلة الطفولة، يُخلّف فراغاً ومشاعر عميقة من الحنين تجاه الأشياء التي لم نحظ بها. بالنسبة إلى الأبناء البالغين الذين نشؤوا تحت رعاية آباء نرجسيين، يؤدي هذا الغياب إلى إنكار مشاعر الغضب والفراغ الداخلي.
يتكون لديهم شعور دائم بالحرمان بسبب عدم تلقيهم للدعم النفسي اللازم. يتعرضون للهجر العاطفي عندما يشعرون بأنهم غير مرغوب فيهم، أو مهمشين، أو غير آمنين، أو متروكين من شخص وثقوا به. ولذلك، يفقدون الدافع والقدرة على التعبير عن حقوقهم ومشاعرهم، ولا يستطيعون تلبية احتياجاتهم أو وضع الحدود الصحية، ممّا يُعيق تطورهم وتقديرهم لذاتهم.
الخلاصة
لن يتحرر الأبناء من المعاناة أبدًا حتى يتقبلوا أوجه القصور التي تسبب بها آباءهم النرجسيين، ويبدؤوا بتقدير أنفسهم. فهم يستدعون السلوكيات والتجارب التي تعرضوا لها في طفولتهم مثل تجربة الهجر العاطفي، ويستخدمونها في تفاعلاتهم مع الآخرين. يسعون إلى نيل القبول والحب وإثبات أنفسهم من خلال الدخول في علاقات مع شركاء مسيئين أو غير متاحين عاطفيًا، بما في ذلك المدمنين والنرجسيين.
قد يزيدون الأمر سوءًا دون وعي منهم، من خلال تبني ردود فعل تلقائية تتعلق بمرحلة طفولتهم، وكأنهم يحاولون توجيه مشاعرهم إلى آبائهم المسيئين أو المسيطرين. يتقبلون اللوم بسهولة ويجدون الخطأ في أنفسهم، لأنهم اعتادوا على أن الحب مشروط، ولا يمنح دون مقابل.
يجب أن يدركوا أن هذه الرحلة العقيمة تقودهم إلى البؤس مدى الحياة. فالسعي لتلقى القبول من الآخرين، لا يداوي الشعور بالدونية أو الفراغ. يتطلب التعافي من الإساءة النرجسية تجاوز الاعتمادية المفرطة والشعور بالخجل من أنفسهم الذي اكتسبوه في طفولتهم. وعندما يتعافون، سيصلون إلى التوافق الروحي الصحيح مع ذاتهم الحقيقية.
ترجمة وإعداد: أسامة ناشر
مقال منشور على موقع “وات إز كوديبيندنسي”، ترجم إلى اللغة العربية، ويُنشر حصريًا على منصة نرجسي بإذن خاص من المعالجة النفسية دارلين لانسر، الخبيرة في النرجسية، والمُتخصصة في العلاقات الزوجية والعائلية. ومؤلفة كتاب “مواعدة، وحب، وفراق النرجسي: أدوات أساسية لتحسين أو ترك العلاقات النرجسية والمسيئة”، وكتاب “دليل العلاقات الاعتمادية للمبتدئين”.
Darlene Lancer, LMFT, Having a Narcissistic Parent, What is Codependency, https://whatiscodependency.com/the-narcissistic-parent/
Darlene Lancer, LMFT Psychotherapist, Expert on Relationships and Narcissism, and Author of: “Dating, Loving, and Leaving a Narcissist: Essential Tools for Improving or Leaving Narcissistic and Abusive Relationships”, and “Codependency for Dummies”