كيف تُأْثِر الأم النرجسية على ابنها؟

غالبًا ما يعاني أبناء النرجسيين من مشكلات وضغوط نفسية استثنائية. لكن الأبناء الذين ينشؤون تحت رعاية أمهات نرجسيات يواجهون تحديات أكبر، حيث يتعرضون لتأثيرات تضر باستقلاليتهم وقيمتهم، وحتى بعلاقاتهم العاطفية المستقبلية.
يفتقر النرجسيون عموماً إلى التعاطف والقدرة على توفير الرعاية اللازمة لأطفالهم. إذ يرونهم امتدادًا لأنفسهم، وليس كأفراد مستقلين. ولذلك، يتجاهلون احتياجات الأطفال، لصالح تلبية رغباتهم الشخصية. يعتقد النرجسيون أن لهم الحق في الحصول على الأشياء على طريقتهم، وغالبًا ما يستخدمون أساليب السيطرة والتلاعب والتسبب بالشعور بالذنب أو الخجل، ليُجبروا الأبناء على تبني أفكارهم وتنفيذ مطالبهم.
يفرضون رغباتهم بمنطق “إما أن تفعل ما أريد أو ستواجه العواقب”. وإذا لم يُستجب لهم، يلجؤون إلى الانتقاد الحاد أو التجاهل أو الحرمان. يدفعهم انعدام الأمان إلى البحث المستمر وغير المنطقي عن الإعجاب والاهتمام، فيشعرون بالإهانة من أتفه الأسباب، مما يدفعهم إلى الرد بإزدراء أو غضب. وبسبب افتقارهم للحدود الشخصية، يسقطون مشاعرهم السلبية على الآخرين، فيشعرونهم بالخجل ويلقون عليهم اللوم على انزعاجهم، وهو ما قد يصعب على الآخرين تقبله.
علاقة الأبناء بالأمهات النرجسيات
تتنوع مظاهر النرجسية وشدتها بناءً على شخصية كل أم وصفاتها الفريدة. فبعض الأمهات النرجسيات قد يُظهرن تجاهلاً تامًا لاحتياجات أطفالهن الأساسية، في حين أن أخريات قد يقدمن الاهتمام ولكن بطريقة مبالغ فيها. هناك من يتصرفن بعدوانية وتحكم، بينما قد تتظاهر أخريات بالحنان أو يلجأن إلى أسلوب الإغواء والتلاعب العاطفي. فيما يلي بعض الأنماط الشائعة لسلوك الأم النرجسية تجاه أبنائها، مع مراعاة أن التجارب الشخصية قد تختلف من حالة لأخرى.
الإهمال
غالبًا ما تميل الأم النرجسية التي تشعر بعبء الأمومة إلى إهمال أطفالها، ولا تتردد أحياناً في إحراجهم أمام الآخرين وتوجيه الانتقادات اللاذعة لهم. خصوصاً عندما يكثرون من الطلبات أو يتصرفون بعفوية الطفولة. فهي نفسها لديها احتياجات عاطفية، وتسعى إلى الحصول على الاهتمام أكثر منهم. لذلك لا تستطيع تلبية احتياجات أطفالها. بالإضافة إلى أنها قد تمارس ضغوطًا خاصة على أبنائها الذكور “ليصبحوا رجالاً” في وقت مبكر، أو تُظهر تفضيلًا واضحًا لبعض الأبناء على حساب أخوتهم، وقد يصل الأمر إلى تجاهل أو تحطيم مشاعر بعضهم علنًا.
التشابك العاطفي
بخلاف الإهمال، قد تتبع بعض الأمهات النرجسيات نمط التشابك العاطفي، حيث يستخدمن أطفالهن كمصدر لتغذية نرجسيتهن. ومع أن الأم النرجسية قد تبدو مستقلة ظاهرياً، إلا أنها في الحقيقة تحتاج جداً إلى الدعم العاطفي. يدفعها هذا الاحتياج إلى إنشاء علاقة اعتماد متبادل مع ابنها من خلال إثارة الإعجاب والسيطرة. قد تعتمد عليه للحصول على الدعم العاطفي، والاستماع إليها، ومرافقتها، أو حتى تحمل بعض مسؤولياتها المنزلية والمالية. وعندما يكبر، قد يجد نفسه مسؤولًا عن اتخاذ قراراتها وإدارة شؤون حياتها.
الأهم من ذلك، أنها قد تستغل ابنها لتزويدها بالاهتمام وتلبية احتياجاتها. تُشعره بأنه محبوب وذا أهمية، مما يعزز اعتماده عليها باستمرار. في ظل هذا التشابك، قد يبدو أن الأم تظهر اهتماماً كبيراً بابنها، لكنها في الواقع تمارس سلوكًا سامًا في التربية. شعوره بالارتياح أصبح مرتبطاً بسعادتها فقط. ومحاولاته للاستقلال غالبًا تكلفه الكثير لأنها تلجأ إلى أساليب التلاعب مثل، تأدية دور الضحية، وإشعاره بالذنب، وإثارة مشاعر الشفقة والغضب لديه. هذه الأساليب تزرع لدى الأبن إحساسًا دائماً بالالتزام بتلبية رغباتها.
التمجيد والانتقاد
كثيرًا ما تلجأ الأم النرجسية إلى تمجيد ابنها وتعزيز ثقته بنفسه من خلال إضفاء طابع المثالية عليه. ولكن عندما ينضج ويبدأ في محاولة إثبات استقلاله أو تحدي سلطتها، تستجيب بانتقادات حادة تهدف إلى إعادة تشكيله وفقًا لرغباتها. قد تتفاخر بإنجازاته أمام الآخرين، لكنها غالبًا ما تنتقده وتقلل من شأنه داخل المنزل.
هذا التناقض يضع الابن في موقف حرج، حيث قد يتمرد أو يسعى جاهدًا لإرضائها من أجل نيل قبولها. التذبذب بين التمجيد والانتقاد يمكن أن يسبب له إرباكًا وصدمة عاطفية. ويزداد الوضع سوءًا إذا وُلد طفل آخر في العائلة. حينها قد يشعر الابن الأكبر بفقدان مكانته المميزة التي زرعتها الأم في ذهنه، مما يخلق منافسة شديدة بين الإخوة.
التثليث العاطفي
يحدث التثليث العاطفي لدى الأم النرجسية عندما تفتقر إلى الأُلفة في علاقتها مع زوجها، والذي يتحول بشكلٍ ما إلى فراغ عاطفي. يتوسع حجم هذا الفراغ عندما يتجنبها زوجها بحجة الانشغال بالعمل. ولتعويض هذا النقص، قد تلجأ إلى “التثليث العاطفي”، وهو إدخال طرف ثالث في حياتها، سواء كان ذلك عملاً أو عشيقاً أو إدماناً أو حتى أبناءها لتلبية احتياجاتها النرجسية.
يكون هذا السلوك ضارًا بشكل خاص، عندما تتخذ الأم أبناءها كأصدقاء أو رفقاء مقربين لتلبية احتياجاتها العاطفية. في هذه الحالة، يصبح الأطفال أهدافًا مثالية لأنهم يشبهون والدهم إلى حد كبير، ويمكن السيطرة عليهم بسهولة.
تزداد معاناة الأبناء عندما يكون والدهم غائبًا باستمرار أو دائم الغضب أو عنيف أو يعاني من مشكلة عقلية أو إدمان. في هذه الحالة، قد يلجأون إلى الإدمان كوسيلة للهروب من الوضع المؤلم، أو قد يعززون ارتباطهم بوالدتهم لتجنب الشعور بالفراغ العاطفي.
الإغواء والعقدة الأوديبية
تسبب الأم النرجسية ضررًا مدمرًا لابنها عندما تضفي الطابع الجنسي على علاقتها به، حيث تستخدم أساليب غير لائقة في كلامها ومظهرها وتعاملها. في بعض الحالات، قد يصل سلوكها إلى حد الاغتصاب العاطفي، مما يحفز تخيلات ابنها الأوديبية ورغباته الجنسية تجاهها, وهي رغبات تكون غير واعية لدى الطفل.
يمر جميع الأطفال بمرحلة العقدة الأوديبية، وهي رغبة جنسية لا شعورية لدى الذكور تجاه أمهاتهم، والإناث تجاه آبائهن. من المهم تجاوز هذه العقدة بطريقة طبيعية وصحية. في الحالات المثالية، تختفي هذه الدوافع عندما يلاحظ الطفل الرابط بين والديه، ويصبح أقرب إلى والده، باعتباره قدوة ذكورية.
عندما تحفز الأم النرجسية رغبات الطفل الجنسية أو تحرجه بتلميحات غير لائقة، فإن العقدة الأوديبية لا تُحل بطريقة صحية. وإذا صادف أن العلاقة الزوجية غير مستقرة، فقد يتطور تعلق الطفل المبالغ فيه بأمه، ويصعب عليه قبول فكرة التخلي عنها.
إذا لم يتمكن الطفل من تجاوز هذه المعضلة، فقد يشعر بأن والدته تحبه أكثر من زوجها (بغض النظر عن مدى دقة هذا الشعور). وبدلاً من تخطي المرحلة الأوديبية كما يحدث لدى معظم الأطفال، قد يتولد لديه شعور بالتفوق على والده. هذا الشعور يؤثر سلبًا على علاقاته في مرحلة البلوغ، حيث يتزعزع مفهومه لذاته كرجل. فهو يرى والده الذي يُفترض أن يكون قدوة إيجابية كشخص فاشل. تتفاقم هذه الديناميكية إذا كان الأب غائبًا باستمرار أو إذا كانت الأم المطلقة تشوه سمعة زوجها السابق وتنفّر منه، مما يزيد من تعقيد المرحلة الأوديبية للطفل.
الغيرة والسيطرة
مثلما تعاني الفتيات من غيرة ومنافسة أمهاتهن النرجسيات، يواجه الأبناء تحديات مشابهة. فالأم النرجسية تشعر بالغيرة من زوجة ابنها أو حتى صديقاته، مما يدفعها للدخول في منافسة شرسة للحصول على اهتمامه وولائه. في هذه الحالة، لن يكون أي شخص جيد بما يكفي لابنها، لأنه لن يرتقي إلى مستوى توقعاتها وصورتها المتضخمة.
تسعى الأم النرجسية دائمًا لأن تكون الأهم في حياة ابنها، فتتدخل في علاقاته العاطفية وتعمل على تقويضها. قد تنتقد شريكته أو تعاملها بازدراء من خلال التلميحات أو التلاعب (شاهد فيلم “ملكة النحل”). يجد الابن نفسه ممزقًا بين مطالب والدته ورغبات شريكته، التي قد تكون هي الأخرى نرجسية أو تعاني من اضطرابات نفسية. فيشعر بالارتباك والذنب، ويكافح للعثور على طريقة تُمكّنه من تحقيق التوازن بين الطرفين دون إيذاء أي منهما.
الأضرار التي تلحق بأبناء الأم النرجسية
لا يشعر أبناء الأم النرجسية بأنهم محبوبون لذواتهم، بل لما يقدمونه من أجل إرضائها. وبما أن المظاهر تحتل أهمية كبيرة في الديناميكية النرجسية، فهي ترى أن على أطفالها التصرف والظهور بطرق تنعكس عليها إيجاباً.
الحب الذي تقدمه الأم غالباً ما يكون مشروطاً بتحقيق أهداف معينة. فبدلاً من أن يكون حباً مبنياً على تفهم الأبن وتقديره كما هو، يصبح مرتبطاً بمدى قدرته على تعزيز مثاليتها وإرضاء غرورها. يتجسد هذا في الضغط على الأبناء لممارسة مهنة معينة أو تحقيق النجاح أو اتباع نمط حياة يتناسب مع رغباتها وأهدافها الشخصية.
الاعتمادية
سواء نجح الأبناء في حياتهم أم لا، فإنهم يكبرون وهم معرضون لخطر الاعتمادية وانعدام الشعور بالأمان، لأنهم لم يتلقوا الدعم الذي يعزز هويتهم الفريدة. تضررت ثقتهم بأنفسهم نتيجة للإساءة اللفظية ورفض شخصياتهم الحقيقية. وتعلموا تلبية احتياجات أمهاتهم على حساب قمع وإنكار مشاعرهم ورغباتهم الخاصة، مما أثر على قدرتهم على بناء علاقات صحية بعد أن كبروا.
هذا الإنكار يجعلهم غير قادرين على التعرف على مشاعرهم واحتياجاتهم أو التعبير عنها بوضوح. يضحون بأنفسهم ويتحملون مسؤولية الخلافات في علاقاتهم، معتقدين أنهم لا يستحقون الحب إلا إذا أرضوا الآخرين. وعندما عجز الأب عن مواجهة زوجته لحماية أبنائه من سيطرتها وتعليقاتها، فشل في أن يكون قدوة في وضع الحدود. لهذا السبب، يشعر الأبناء عندما يكبرون أن النساء يتلاعبن بهم ويستغلن مشاعرهم.
عقدة العلاقات العاطفية
عندما يشعر الابن بالعجز عن التعبير عن مشاعره واحتياجاته لوالدته النرجسية، ينشأ لديه شعور بعدم الأمان في علاقاته العاطفية لاحقاً. يصبح متخوفاً من أن يتم الحكم عليه أو التخلي عنه، بسبب تعرضه للتلاعب والهجر العاطفي من قبل والدته. ولأنه كان تحت سيطرتها، يخشى أن تستحوذ وتسيطر عليه شريكته. يتجنب العلاقات العاطفية، ما يدفع شريكته إلى المطالبة بمزيد من التقارب، وهو ما يصعد من مخاوفه ودفاعاته أكثر.
الشعور بالكراهية
نتيجة الشعور بالسيطرة والاستغلال من قبل والدته النرجسية، قد يطور الابن كراهية شديدة تجاهها. غالبًا ما تمتد هذه الكراهية إلى النساء الأخريات، فيتفاعل معهن إما بخضوع أو ندية أو قسوة. بعض الأبناء قد يصبحون عدوانيين ويفقدون الثقة بالنساء، بينما يتعلم آخرون أن يكونوا متلاعبين أو سلبيين في تعاملاتهم.
قد يفرطون في محاولات الاسترضاء أو يكذبون أو يرفضون طلبات بسيطة من شريكاتهم، كما لو كانت طلبات أمهاتهم. هذا السلوك العدائي يمكن أن يؤدي في النهاية إلى أن تبدأ شريكاتهم في التصرف مثل أمهاتهم. بالإضافة إلى أن الاستياء والخوف من العلاقات العاطفية قد يدفعهم إلى اعتماد أساليب الخداع أو الخيانة، خاصة إذا كان والدهم يتبع نفس السلوكيات.
نَسخ العلاقات
يُطور بعض الأبناء صفات مشابهة لصفات أمهاتهم النرجسية، وغالبًا ما يكون لديهم معدلات أعلى من النرجسية مقارنةً بالآخرين. قد يعود السبب إلى أن الأم تضخم من شأن أبناءها وتثني عليهم أكثر مما تتنافس معهم، كما تفعل مع بناتها.
قد ينسخ بعض الأبناء نمط العلاقة مع أمهاتهم، ويطبقونه على علاقاتهم العاطفية. يجدون أنفسهم في علاقات مع نساء يشبهن أمهاتهم: أكبر سناً، نرجسيات، لديهن اضطرابات شخصية مثل اضطراب الشخصية الحدية أو غيرها من التحديات النفسية. يقدمون لهن الرعاية كما كانوا يفعلون مع أمهاتهم، ويواجهون صعوبة في التخلي عن هذه العلاقات، على الرغم من وجود إساءات واضحة في المعاملة.
اطلع على دليلك للصمود عند العيش مع شخص نرجسي
الخلاصة
للتعافي من الضغوط والصدمات التي تسببها الأم النرجسية، يجب على الأبناء تقبل شخصيتها المضطربة، والسيطرة على مشاعر الألم والغضب تجاهها. في نهاية المطاف، يحتاجون إلى أن يشفقوا على آبائهم وامهاتهم سواءاً أحبوهم أم لا. وفي الوقت نفسه، من الضروري أن ينموا مشاعر الحب والتقدير تجاه أنفسهم، وأن يدركوا أنهم يستحقون الحب والاحترام بغض النظر عن تجاربهم السابقة. وأخيراً، يجب أن يتعلموا كيفية وضع حدود صحية مع والدتهم أو أي شخص آخر، وإعطاء الأولوية لتقدير احتياجاتهم ومشاعرهم، والتعبير عنها بحرية.
ترجمة وإعداد: أسامة ناشر
مقال منشور على موقع “سايكولوجي توداي”، ترجم إلى اللغة العربية، ويُنشر حصريًا على منصة نرجسي بإذن خاص من المعالجة النفسية دارلين لانسر، الخبيرة في النرجسية، والمُتخصصة في العلاقات الزوجية والعائلية. ومؤلفة كتاب “مواعدة، وحب، وفراق النرجسي: أدوات أساسية لتحسين أو ترك العلاقات النرجسية والمسيئة”، وكتاب “دليل العلاقات الاعتمادية للمبتدئين”.
Darlene Lancer, LMFT, Sons of Narcissistic Mothers, Psychology Today, https://www.psychologytoday.com/us/blog/toxic-relationships/202003/sons-narcissistic-mothers
Darlene Lancer, LMFT Psychotherapist, Expert on Relationships and Narcissism, and Author of: “Dating, Loving, and Leaving a Narcissist: Essential Tools for Improving or Leaving Narcissistic and Abusive Relationships”, and “Codependency for Dummies”