كيف تتشكل النرجسية؟ 3 عوامل تبدأ من الطفولة

تتشكل النرجسية في مراحل الطفولة من خلال تفاعل الجينات مع التربية والقدر
من السهل توجيه اللوم للآباء والأمهات عندما يصاب الطفل باضطراب الشخصية النرجسية، لكن هناك عوامل أخرى يمكن أن تسهم في تطور هذا الاضطراب، أو تقلل من احتمالية حدوثه.
يؤكد الخبير في اضطرابات الشخصية وواضع نظريات العلاقات الموضوعية جيمس ف. ماستر الذي عاش خلال الفترة 1926-2010، أن تفاعل ثلاثة عوامل قد تحدد ما إذا كان الشخص سيصاب باضطراب في الشخصية، وأي الاضطرابات هو الأكثر احتمالاً. هذه العوامل الثلاثة هي: الطبيعة، والتربية، والقدر. يقصد ماسترسون بأن أساليب التربية السيئة وحدها لا توضح كلّياً كيف تتشكل النرجسية ولا تفسر سبب تطوير بعض الأطفال لمجموعة معينة من السلوكيات مثل النرجسية، بينما يطور أطفال آخرون في ظروف مماثلة سلوكيات مختلفة. دعونا نستعرض كل عامل على حدة:
ملحوظة: في هذا المنشور استخدمت مصطلح “نرجسي” و”نرجسيين” كاختصار لاضطراب الشخصية النرجسية.
أولاً: الطبيعة
يشير ماسترسون إلى الطبيعة على أنها المزاج الفطري الذي يخلق عليه الفرد. على سبيل المثال، يولد بعض الناس بطبيعة تجعلهم أكثر قدرة على إظهار التعاطف مقارنة بآخرين. يشمل التعاطف القدرة على الإحساس بما يشعر به الآخرون، سواء كان فرحًا أو حزنًا أو ألمًا. إذا كنت تمتلك مشاعر تعاطف قوية، فإنك ستتأثر لا إرادياً عند رؤية شخص يؤذي نفسه، مثل أن يضرب إصبعه بالخطأ بالمطرقة. وهذا يعني أنك إذا ولدت بمستوى عالٍ من التعاطف، فمن غير المرجح أن تتشكل النرجسية لديك لأنك ستجد أنه من المؤلم إيذاء الآخرين.
ثانياً: التربية
تشير التربية إلى الطريقة التي يعامل بها الآباء ومقدمو الرعاية الطفل منذ ولادته وحتى بلوغه. على سبيل المثال، الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات الشخصية يفتقرون إلى ما يُسمى بــ “العلاقات الموضوعية الكاملة” و “الثبات الموضوعي”، بالرغم من أنهم خلقوا وهم قادرين على اكتسابها.
العلاقات الموضوعية الكاملة هي قدرة الأشخاص على رؤية أنفسهم والآخرين بصورة واقعية ومستقرة ومتكاملة، تتضمن جميع الصفات الإيجابية والسلبية.
الثبات الموضوعي هو الحفاظ على تلك الصورة المكتملة عند الشعور بالأذى أو خيبة الأمل أو الغضب أو الفراق.
نحن في الغالب ننمو، ونكتسب علاقات موضوعية كاملة وثباتًا موضوعيًا من خلال الطريقة التي يعاملنا بها آبائنا، وكذلك من خلال ملاحظتنا لتعاملهم مع الآخرين. إذا كانت معاملتهم لنها متقلبة، حيث نكون أحيانًا “مثاليين جداً” وأحيانًا أخرى “فاشلين جداً”، يصبح من الصعب علينا دمج هذين الأسلوبين المتناقضين، وتكوين صورة متماسكة عن أنفسنا. لحسن الحظ، يمكننا تطوير هذه القدرات كبالغين من خلال بذل الجهد المناسب والـعلاج النفسي.
بالنسبة للشخص الذي يعاني من إضطراب الشخصية النرجسية، فإن أسلوب “مثاليين جداً” الذي يتلقاه من والديه يعني الكمال والتميز وأحقية تلقي المعاملة الإستثنائية .أما أسلوب “فاشلين جداً” فيعني أنه معدوم القيمة وناقص، ولا يستحق شيئًا.
يعد عامل التربية من أكثر العوامل التي تتحكم أو تؤدي إلى تشكل النرجسية في مراحل العمر المبكرة، فيما يلي بعض الأسباب التي قد تؤدي إلى ذلك:
قيم العائلة النرجسية
إذا كان نظام القيم في الأسرة يميل إلى النرجسية، فمن المحتمل أن يتبنى الطفل نفس المعايير، وتتشكل النرجسية لديه للأسباب التالية:
- سعيه المستمر لإرضاء والديه
- اعتبار والديه مثاليون ويعرفون كل شيء على العالم
- خوفه من تلقي العقاب أو الإنتقاد
في حال كان أحد الوالدان نرجسياً، فمن المرجح أن يفرض مبدأ التسلسل الهرمي في الأسرة، ويركز على المكانة والإنجازات. وفي هذه الحالة، من المستبعد أن يعلم أطفاله أو يكافئهم على لطفهم وتعاطفهم، إلا إذا كان ذلك يعزز نرجسيته ويجعله يظهر بصورة أفضل أمام الآخرين.
الحب المشروط
في العائلات التي يوجد فيها آباء نرجسيين، لا يُمنح الحب للأبناء دون مقابل، لأن الحب الحقيقي يتطلب وجود ‘علاقات موضوعية كاملة’ تشمل تقبل الأبناء بكل عيوبهم ومزاياهم. بدلاً من ذلك، يشعر الأبناء بأنهم محبوبون أو يستحقون الحب فقط عندما يرضون آباءهم، ويشعرون بالعكس عندما يخفقون في إسعادهم، مما يؤدي تطوير سلوكيات نرجسية.
نوع الآباء النرجسيين
عادةً ما يقوم الآباء النرجسيين إما بالتقليل من قيمة أبنائهم أو المبالغة في الإعلاء من شأنهم. هناك آباء قد يكونون أسوأ من غيرهم بكثير. على سبيل المثال، يستمتع النرجسي الخبيث بتحطيم معنويات أبنائه، بينما يميل النرجسي المستعرض إلى مكافأتهم بالاهتمام عندما تعكس إنجازاتهم صورة جيدة عن العائلة.
الأطفال المصابون باضطراب الشخصية الانعزالية.
قد يصاب الأطفال الذين ينشأون مع آباء مسيئين أو مهملين أو مُتطفلين، باضطراب الشخصية الانعزالية بدلاً من النرجسية. وكاستجابة للصدمة التي يتعرضون لها، تتشكل النرجسية لديهم فيتعلمون الدفاع عن أنفسهم من خلال الانفصال عن محيطهم، حيث “يغيبون ذهنيا” ويلجؤون إلى عالمهم الخاص. يخلقون لأنفسهم حياة خيالية جميلة، كوسيلة للهروب من الواقع. بالإضافة إلى أنهم قد ينشأون بثقة ضعيفة أو منعدمة تجاه الآخرين، مما يؤدي إلى أن يصبحوا أفراداً معزولين اجتماعيًا ومستقلين جداً، ويصبح الأمان في العلاقات الاجتماعية مصدر قلق دائم لهم.
الأطفال المصابون باضطراب النرجسية الخفية
قد يؤدي معاقبة الأطفال على سعيهم للفت الأنظار، أو لكونهم غير جريئين بطبيعتهم، إلى تشكل النرجسية الخفية. وبدلًا من محاولة جذب الإعجاب من خلال إظهار أنفسهم عندما يكبرون، يلجأون إلى إسعاد الأشخاص الذين ينظرون إليهم بإجلال. في هذه الحالة، يقدمون أنفسهم كأشخاص مهمين أو داعمين أو لا غنى عنهم.
الأطفال الذين يصبحون اعتماديين
لا ينطبق تشخيص اضطراب الشخصية النرجسية على جميع الأطفال الذين ينشأون تحت رعاية آباء نرجسيين. لكن بسبب عدم تشجيع هؤلاء الأطفال على إبداء آرائهم أو الثقة بأنفسهم، قد يواجهون صعوبة في تحديد الأشياء التي يحبونها أو يكرهونها عندما يكبرون. وللتغلب على هذه المشكلة، قد يسعون إلى الارتباط بأشخاص أكثر حزمًا، بحيث يتحمل هؤلاء الأشخاص مسؤولية اتخاذ القرارات بدلاً منهم، ويخبرونهم بما يجب فعله، وهو ما يؤدي في نهاية المطاف إلى تشكل النرجسية ليهم.
إقرأ المزيد حول الأعراض النفسية التي يعاني منها أبناء النرجسين
الصوت النرجسي الداخلي
نملك جميعًا صوت داخلي ناقد يشبه تطبيقًا قابلًا للبرمجة. صُمم هذا الصوت لاحتواء طريقتنا في استيعاب المكافأة أو العقوبة التي نتلقاها من آبائنا وثقافتنا، ثم يرشدنا في تعاملاتنا مع متطلبات الحياة. في أفضل حالاته، يكافئنا هذا الصوت بشعور الاعتزاز عندما ننجح أو نتبع توجهاته، ويعاقبنا بالخجل والشعور بالذنب عندما نفشل.
الأطفال الذين ينشأون في بيئة نرجسية، حتى وإن لم يصبحوا نرجسيين، من المرجح أن يتبنوا صوتًا داخليًا قاسيًا، ينتقص من قيمتهم، ويسعى إلى الكمال، ويدعم معايير آبائهم النرجسيين.
الأبناء المصابين باضطراب الشخصية الحدية
هناك الكثير من الأشخاص الذين يزورونني في العيادة ينطبق عليهم تشخيص اضطراب الشخصية الحَدّية. هؤلاء الأشخاص تبنوا أسلوب التقليل من قيمتهم الذي زرعه أبائهم النرجسيين. لا يستطيعون أبدًا إرضاء صوتهم الداخلي الاضطهادي الذي تطور بسبب انتقادات آبائهم المستمرة. ونتيجة لذلك، تتشكل النرجسية لديهم ويصبح تقديرهم لذاتهم منخفض جدًا. يعتقدون أنهم لا يستحقون الحب، ويلومون أنفسهم على كل المشكلات التي تحدث في علاقاتهم. وعندما يحاولون التطوير من أنفسهم، يخبرهم صوتهم الداخلي ببعض الأفكار التي تمنعهم من المحاولة مثل:
- أنت لا تستحق النجاح.
- أنت محكوم عليك بالفشل.
- لا تحاول.
- كل الأشياء السيئة التي تحدث لك، تحدث بسببك.
بدلاً من أن يحفزهم صوتهم الداخلي على بذل المزيد من الجهد للتغلب على التحديات التي يواجهونها، يصابون بالإحباط. وهذا يؤدي غالبًا إلى الاستسلام والشعور باليأس. تسيطر عليهم أفكار هدامة مثل: “ما الفائدة من المحاولة؟ سأفشل على أي حال!”. هذه الأفكار تدفعهم إلى تبني سلوك تجنبي، واكتساب شعور متدني باحترام الذات. مع مرور الوقت، تتحول هذه الأفكار إلى نبوءة ذاتية التحقق، حيث يصبح الفشل نتيجة متوقعة لتلك القناعات السلبية.
مع أن هؤلاء الأشخاص ليسوا نرجسيين بطبيعتهم، إلا أن تشكل النرجسية كان بسبب تبنيهم لصوت داخلي نرجسي، وبالتالي يلجأون إلى استخدام حلول ذات طابع نرجسي متطرف لمواجهة مشكلاتهم. على سبيل المثال، أخبرني رجل ذكي جدًا، ينحدر من عائلة نرجسية ثرية بالآتي، لاحظ أن كلامه تضمن مزيجًا من الشعور بالعظمة والعجز:
- يجب أن أكون الأفضل.
- الأغنياء هم الأفضل.
- يجب أن أكون مليارديرا.
- لا أستطيع أن أكون مليارديرا.
- أنا فاشل.
- يجب أن أنتحر.
بهذا النوع من التوجيه الداخلي، يصبح الشعور بالسلام الداخلي أو الرضا أمراً بعيد المنال، ويحل مكانه ضغط نفسي هائل يفرضه الشخص على نفسه باستمرار. عبر أحد الأشخاص عن معضلته بالقول: “ليس لدي سوى خيارين حقيقيين: إما أن أستسلم وأعترف بأنني خاسر تمامًا، ثم أقتل نفسي، أو أن أصبح مليارديرًا. إذا أصبحت مليارديرًا، فلن يجرؤ أحد على مضايقتي.”
معلومات مفصلة حول الصوت الداخلي الناقد وطريقة التعامل معه ستجدها في مقال كيف يفكر النرجسي.
ثالثاً: القدر
وفقًا لماسترسون، يشير مفهوم “القدر” إلى جميع الأحداث غير المقصودة التي تؤثر على الأطفال خلال المراحل الحرجة من نموهم. على سبيل المثال، أشارت المحللة النفسية مارغريت مالير في كتابها “الولادة النفسية للرضيع البشري” (1975) إلى أن تفاعلات الطفل مع والديه خلال السنوات الثلاث الأولى تلعب دورًا حاسماً في تكوين شخصيته وقدراته العاطفية والاجتماعية.
تشير مالير إلى أن أكثر مراحل النمو أهمية المتعلقة بقدرة الطفل على الانفصال والاستقلال عن الأم، تحدث خلا هذه الفترة. إذا لم تكن الأم موجودة بشكل كافٍ في هذا الوقت، لأي سبب كان، فقد يؤثر ذلك سلبًا في الطفل ويعوق تطوره العاطفي والنفسي، لكن إذا تدخل شخص آخر كبديل للأم، مثل العمة أو الجدة، من الممكن تجنب الآثار السلبية أو على الأقل التقليل من حدتها.
هناك الكثير من الظروف التي يمكن أن تتسبب بفصل الأطفال الصغار عن أمهاتهم وتؤدي في النهاية إلى تشكل النرجسية. غالبًا ما تكون هذه الظروف خارجة عن السيطرة، مثل المرض، والحروب، والوفاة، والطلاق، واكتئاب ما بعد الولادة، أو حتى مجرد وجود أطفال صغار آخرين يتنافسون في الحصول على اهتمام الأم. تكون نتائج هذه الظروف مختلفة، بناءاً على مرحلة النمو الأكثر تأثيراً والتي تتزامن مع فترة غياب الأم.
الخلاصة
عندما ينظر الأطباء النفسيون وأصحاب النظريات إلى أسباب تشكل النرجسية عند الطفل، بينما يعاني طفل آخر من مشكلات نفسية مختلفة، فإنهم عادةً لا يلقون اللوم فقط على الآباء أو الجينات. فقد أصبح من المعروف أن هناك ثلاثة عوامل مجتمعة تسهم في تشكيل شخصية الطفل: طبيعته الفطرية، وطريقة تربيته، ونتائج الأحداث غير المقصودة والخارجة عن السيطرة التي تؤثر سلبًا في نموه.
ترجمة وإعداد: أسامة ناشر
مقال منشور على موقع “سيكولوجي تودي”، ترجم إلى اللغة العربية، ويُنشر حصريًا على منصة نرجسي بإذن خاص من الدكتورة إلينور غرينبيرغ، مؤلفة كتاب “التكيفات الحدية، والنرجسية، والانطوائية: السعي وراء الحب والإعجاب والأمان”
Elinor Greenberg, PhD., What Three Factors Predict If a Child Will Become a Narcissist?, Understanding Narcissism, Psychology Today, https://www.psychologytoday.com/us/blog/understanding-narcissism/202001/what-three-factors-predict-if-child-will-become-narcissist
Dr. Greenberg is the author of the book: Borderline, Narcissistic, and Schizoid Adaptations: The Pursuit of Love, Admiration, and Safety.”