أسطورة نرجس وإيكو وقصة أصول النرجسية
في بحر الأساطير اليونانية الشاسع، اكتسبت قصة نرجس وإيكو أهمية خالدة امتد تأثيرها لقرون، وتركت بصمة لا يمكن محوها حول فهمنا البدائي كبشر لحب الذات والهوس بالنفس. أثارت هذه الأسطورة اهتمام العقول عبر مر الأزمان، وقدمت نظرة ثاقبة في الجوانب المعقدة للطبيعة البشرية وبذور النزعة النرجسية.
لم تكن أسطورة نرجس وإيكو جزءاً من التراث الثقافي فحسب، بل أسهمت بشكل أساسي في تشكيل مفهومنا عن النرجسية. ساعدتنا برمزيتها على استيعاب تعقيدات حب الذات المفرط وكيف يؤثر على سلوكيات الإنسان وعلاقاته. أصبح هذا التعلق بالذات، كما يمثله نرجس في الأسطورة، رمزاً لفهم السمات النرجسية حتى يومنا هذا.
إصدارات الأسطورة
قبل أن نغوص في تفاصيل هذه الأسطورة، من المهم ملاحظة أن هناك الكثير من الروايات التي تدور حولها. فقد قدم بعض الكتاب القدامى نسخهم الخاصة مثل، الجغرافي اليوناني باوسانياس، والمؤلفين كونون، وبارثينيوس. يُظهر هذا التنوع مدى أهمية الأسطورة على مر العصور، ويمنحنا تفسيرات متنوعة حول فهمنا الثقافي والنفسي لشخصيتي نرجس وإيكو. وبينما تتفاوت هذه الروايات في بعض التفاصيل، إلا أنها تتفق جميعًا في جوهرها من خلال التركيز على جوانب الحب غير المتبادل والغرور والعواقب المأساوية.
في خضم هذا التنوع في مرويات أسطورة نرجس وإيكو، تظل نقطة ارتكازنا ثابتة على نسخة أوفيد، وذلك بفضل تألقه السردي الذي تجلى في قصيدته “التحولات”، والذي صمد أمام اختبار الزمن، وساعد على توفير فهمًا متماسكًا وشاملًا امتد لقرون.
نبوءة الطفل نرجس
تدور أحداث قصتنا في عالم الأساطير اليونانية في أرض بيوتيا القديمة، حيث أنجبت حورية النهر ليريوبي طفلاً يتمتع بجمال آسر ليس له مثيل أسمته نرجس. ومع نمو نرجس، تصبح ليريوبي قلقة بشأن مصير ابنها الذي يزداد جمالاً يوماً بعد يوم. في الأثناء، تنتشر أخبار عن وجود مُنجّم مشهور لا يخطئ في أقواله وتنبؤاته، فتذهب لاستشارته خوفاً على مستقبل ابنها. تتوسل ليريوبي إلى المنجم، وتسأله قائلةً: “أخبرني، هل سيعيش طفلي عمراً طويلاً؟” وكعادة المنجمين، يرد عليها بتنبؤ غامض ويقول: “سيعيش طويلاً…إذا لم يتعرف إلى نفسه”.
الحورية إيكو
كانت إيكو حورية تمتلك صوتاً جميلاً، وموهوبة بالقدرة على التحدث ببلاغة. تجد إيكو نفسها متورطة في نزوات الآلهة زيوس وزوجته جونو. وفقاً للأسطورة، كان لدى زيوس علاقات عاطفية تربطه مع بعض الحوريات، وكانت زوجته الآلهة جونو تشك في خيانته لها. تقرر جونو التأكد من خيانته، فتذهب لمراقبته عند سفوح الجبال. وعندما تشارف على الوصول إلى مكان تواجده، تتدخل إيكو لتشتت انتباهها، حتى تتمكن الحوريات من الهرب. تدرك الآلهة جونو أن إيكو كانت تلهيها، فتلقي عليها لعنةً قاسية، تحرمها من قدرتها على الكلام والتعبير عما يجول في خاطرها.
تحول اللعنة إيكو إلى مجرد انعكاس للآخرين، محكوم عليها بتكرار الكلمات الأخيرة التي تسمعها. يمهد هذا الطريق لقصة حب معقدة ومأساوية، ستجمع بين إيكو، الفتاة الجميلة ذات الصوت الشجي، ونرجس، الشاب الوسيم الذي لا يهتم بأحد سوى نفسه.
نرجس ابن إله النهر
في المقابل، هناك نرجس ابن سيفيسوس إله النهر والحورية ليريوبي الذي يبلغ ستة عشر عاماً الآن، والذي يجهل وجود إيكو تماماً. يواصل نرجس حياته في حالة من الانفصال، ويصبح انشغاله بذاته سمة مميزة. يمتلك قلباً يبدو منيعاً أمام مظاهر الإعجاب التي تحيط به. ويتميز سلوكه بطابع من اللامبالاة والكبرياء، وهو موقف متصلب لا يتزحزح داخل حدود جسمه الرشيق. يأسرُ نرجس خيال كل من يقابله، ويصبح موضع اهتمام كثير من الرجال والنساء الذين ينجذبون إليه من شدة جماله. ورغم ذلك، فهو يبدو متعالياً ومراوغاً وصعب المنال، ويقاوم بشدة أولئك الذين يسعون إلى التقرب منه أو التودد إليه.
إيكو وحبها لنرجس
في الغابات الخضراء، تتجول إيكو، وقلبها يفيض بمشاعر الحب تجاه نرجس، شأنها شأن الآخرين. لكن بسبب اللعنة التي أصابتها، فهي لا تستطيع التعبير عن مشاعرها. تراقبه إيكو في كل خطواته. تتبعه من مكان إلى آخر دون أن يشعر بها، وكلما اقتربت منه، كلما ازداد حبها، ورغبتها بالتحدث إليه.
وعلى الرغم من رغبتها المشتعلة في نطق الكلمات لتعبر عن حبها، تجد إيكو نفسها مقيدة بطبيعة لعنتها. لا تزال مخنوقة بحاجز لا يمكن التغلب عليه. كل ما يمكنها فعله هو تحمل ألم الحب غير المعلن، وانتظار كلمات نرجس لترددها حتى تشعر بالارتياح.
اللقاء المصيري
تصل اللحظة المحورية في الاسطورة عندما تفقد إيكو القدرة على احتواء مشاعرها، وتكشف عن نفسها لنرجس. فبينما كان نرجس يتجول برفقة أصدقائه، ينفرد بنفسه، ويذهب ليتمشى في الغابة. وفي أثناء تجوله، لا تستطيع إيكو مقاومة مشاعرها، وتقرر أن تخطو خطوة إلى الأمام في سبيل الكشف عن حبها تجاه الشخص الذي لطالما أسر قلبها.
يشعر نرجس بأن هناك شخصاً ما بالقرب منه فينادي، وهو يترقب: “من هناك!” لتردد إيكو كلماته ذاتها، فهي لا تستطيع إلا أن تكرر ما تسمع: “من هناك!… من هناك!” يتردد الصوت. يتوجس نرجس محاولاً معرفة مصدر الصوت، يتلفت متعجباً، وينادي مرة أخرى: “اظهر نفسك!” ليتردد نفس الصوت من قبل إيكو: “أظهر نفسك!.. اظهر نفسك!”. يزيد فضول نرجس، وينادي مراراً، مطالباً من يردد كلماته بالظهور: “لماذا تهرب؟” ليتكرر نفس الصوت على مسامعه دون جدوى.
يقف نرجس متأهباً ومتشوقاً لمعرفة مصدر الصوت فينادي مرة أخرى: “يجب أن نتقابل!” لترد إيكو بنفس الكلمات: “أن نتقابل… أن نتقابل”. وفي تلك اللحظة، يغمر إيكو إحساساً بالشوق يفقدها نفسها، ورغبة تملأ قلبها. تندفع من بين الأشجار، وهي تمد ذراعيها باتجاه نرجس محاولة احتضانه، إلا أن حماسها يتحول إلى خيبة أمل عندما يتراجع نرجس غاضباً: “أفضل الموت على أن أسمح لك بلمسي، ابتعدي!” لتردد وراءه: “ابتعدي!…ابتعدي!”.
يرفض نرجس وبكل تعالٍ إيكو التي ظهرت أمامه فجأة، غير مدرك لمحنتها التي أصابتها وللمشاعر التي تكنها له. تُصدم من ردة فعله تجاهها، وتركض هاربةً إلى الغابة محتقرة نفسها. تشعرُ بالم الرفض والبؤس يخنقانها. تعيش في عزلة، وتتنقل بين الغابات والكهوف والجبال غارقةً في حزنها.
لم يبدِ نرجس في المقابل أي اهتمام لإيكو وركض مبتعداً. فهو مهووس بحب نفسه، ولا يرى أحد بنفس مستواه. لقد أبدا اهتمامه فقط حينما شعر بالتحدي لمعرفة صاحب الصوت المجهول، وأراد رؤيته بشدة، لكن عندما أظهرت إيكو نفسها، وحاولت التعبير عن مشاعرها تعامل معها بكبريائه المعتاد، ومضى في حياته، وكأن شيئاً لم يكن.
يعود نرجس إلى أصدقائه، وكالعادة، لا ينفك الرجال والنساء من حوله من إظهار حبهم وإعجابهم بجماله. يحاولون التودد إليه، لكنه يقابل اهتمامهم المستمر بالسخرية والاحتقار. ونتيجة لغروره وأسلوب تعامله المتعالي، يدعو عليه أحد الرجال، رافعاً يده ومتوسلاً: “أتمنى أن يُحرم نرجس من لذة الحب كما حرّمني منها!”
لعنة نرجس
تستجيب ألهة العدالة “نمسيس” لدعاء الرجل، وتقرر معاقبة نرجس. ففي أحد أيام الربيع الجميلة، بينما يمارس نرجس هواية الصيد، يشعر بالتعب فيتوجه إلى البحيرة. كانت البحيرة تعكس صفاء السماء كالمرآة، ويحيط بها العشب والأشجار من كل جانب. ينجذب نرجس لجمال المكان، ويستلقي ليأخذ قسطاً من الراحة.
يشعر نرجس بالعطش، فينهض إلى البحيرة ليشرب الماء. يدنو برأسه ليروي عطشه، وبعد أن يرتوي، سرعان ما يتحول انتباهه لشيء ما. شيء يطغى على كيانه فجأة: يرى نرجس صورته المنعكسة على الماء. يرى جماله الآسر، ويستمر بالتحديق في ملامحه الساحرة. ولأول مرة، يرى ما كان يتحدث عنه عشاقه ومعجبيه.
يغرق نرجس في مشاعر الحب تجاه نفسه غير مصدقاً لما يراه. يصبح مفتوناً بملامح وجهه غير آبه بأي شيء آخر، ويقضي كل وقته أمام انعكاس صورته. ومن شدة إعجابه، يمد يده محاولاً لمس الشخص الذي يظهر أمامه، لكن يده تحرك الماء فيختفي الانعكاس. يدخل رأسه في الماء باحثاً، ولكنه لا يرى أحد. يحاول مراراً الإمساك بصورته لكنها سرعان ما تتسرب من بين يديه. وبذلك يقع نرجس في حب نفسه لتتحقق نبوءة المنجم، وتصيبه دعوة الرجل الذي افتتن به.
النهاية المأساوية
يظل نرجس الذي استهلكه حبه للصورة الوهمية مهووسًا بالتحدث إلى الشخص الذي يظهر له على سطح البحيرة. يحاول الوصول إليه متجاهلاً حقيقة أنها انعكاس لصورته. يفقد الاهتمام بنفسه، ويمتنع عن الأكل والشرب، ويرفض الاستماع إلى كل الذين من حوله. يتجه في كل مرة بالحديث إلى صورته المنعكسة، وبصوت يملؤه الشوق يقول:
“أبتسمُ لك، وتبتسمُ لي بالمقابل. أذرفُ الدموع، وتبكي معي. تومئُ لي برأسكَ عندما أعبرُ عن رضاي! وأرى شفتيكَ تنطق كلماتي، لكنني لا أسمعُ صوتَكَ أبدًا”.
يعاني نرجس من الحب الذي أصابه، ويتمنى التخلص من جسده الذي يراه عائقاً بينه وبين “حبيبه”. لكنه في الوقت نفسه، يدرك أن بموت جسده سيموتان معاً. ومع اشتداد حدة الاضطراب العاطفي لديه، وفي نوبة من الانفعال، يشق ملابسه، ويبدأ بالضرب على صدره بعد أن عجز عن تجاوز الوهم. يخفت صوت نرجس، ويتلاشى بعد شعوره بحب عقيم جعله أسيراً لنفسه.
ترزح إيكو شاهدةً على مأساته. تسمع أنفاسه البائسة وضرباته القاسية على صدره. تشاهده وهو يوجه آخر كلماته إلى انعكاس صورته قائلاً: “حسرتي على حبك الضائع يافتى! وداعاً”. تردد إيكو كلماته الأخيرة، وهي تبكي نفسها وحبيبها: “وداعاً… وداعاً”. يتغلب عليه اليأس في لحظاته الأخيرة، ويستسلم لحتمية مصيره ليتحول بعد ذلك إلى زهرة بجانب البحيرة. يُطلق عليها لاحقاً “زهرة النرجس”، وتصبح رمزاً للغرور وحب الذات.
أما إيكو فتغرق في خليط من مشاعر الحزن والألم وإحساس الرفض الذي تسبب به نرجس. يستمر حزنها والمها على نرجس وعلى نفسها. تفقد قدرتها على النوم، وتصاب بالهزال، بسبب معاناتها، ولا يتبقى منها سوى صوتها وعظامها لتتحول إلى صخرة. يصبح اسم “إيكو” والذي يعني “الصدى” تعبيراً عن الأصوات التي تتكرر عندما يُنَادَى بها في الجبال.
تأملات نفسية
تتجاوز أسطورة نرجس وإيكو مكانتها كقصة أسطورية من وحي الخيال، وتتعمق في جوانب فهمنا لسلوكياتنا كبشر. فهي محاولة استكشاف تقدم تأملًا واسعاً في تعقيدات حب الذات, والهوس, وعواقب النرجسية الجامحة.
يُعد هوس نرجس بنفسه نموذجًا أولياً للسلوك النرجسي. فهو لم ير العالم إلا من خلال منظوره لذاته. لم يستطع التواصل مع الآخرين بشكل طبيعي، وانتهى به الأمر إلى الموت بسبب انشغاله المفرط بنفسه. تعكس هذه العناصر الثلاثة التحذيرات من العواقب الخطيرة للسلوك النرجسي، والتي تردد صداها عبر الثقافات والأجيال.
في المقابل، تجسد إيكو ألم الحب بلا مقابل، والمعاناة المترتبة من فقدان القدرة على التعبير عن المشاعر. يعكس شوقها الصامت لنرجس قدرة الإنسان على تحمل الاضطرابات العاطفية، ويقدم وصفًا مؤثرًا لألم الحب، وتأثيره على الروح.
بغوصنا في ثنايا أسطورة نرجس وإيكو، نحن لا نكشف فقط عن خيوط سردية القصة بما فيها من تفاصيل، بل نكتسب أيضًا تفسيرات حول الطبيعة البشرية في أكثر لحظاتها ضعفًا وتحولًا. فهي مثل المِرآة التي تعكس ميولنا إلى الانغماس بحب الذات، والانزلاق نحو الأخطار المحتملة للنرجسية. تدعونا هذا القصة إلى التأمل في رغباتنا وروابطنا، وإيجاد التوازن المطلوب بين حب الذات وعلاقاتنا بالآخرين.
إقرأ المزيد حول:
– هل هناك علاج للنرجسية؟
– 9 حقائق صادمة ستُغيّر نظرتك عن النرجسية
– ثلاثة عوامل تُنبئ بتحول الطفل إلى شخص نرجسي
– مراحل التعافي من الإساءة النرجسية
A. S. Kline, Ovid: The Metamorphoses – Book III, Poetry in Translation, https://www.poetryintranslation.com/PITBR/Latin/Metamorph3.php
Ovid, Metamorphoses, Book III, Perseus Digital Library, https://www.perseus.tufts.edu/hopper/text?doc=Perseus%3Atext%3A1999.02.0028%3Abook%3D3%3Acard%3D314
Hope Gillette, Narcissus and Echo: The Myth and Tragedy of Relationships with Narcissists, Psychcentral, https://psychcentral.com/lib/narcissus-and-echo-the-myth-and-tragedy-of-relationships-with-narcissists